Author: لحن اللافندر
•5:26 ص


هذه السطور هي ومضات صغيرة
لمستها وأنا أتجول في (قسم الشعر) في منتديات أسواق المربد (لمن أرد زيارته من هنا) فآثرت أن أفرد لها مقالا خاصا..

فأرجو أن أكون موفقة في اختيارها.. وألا أدفعكم إلى الملل.. وإن حدث.. فأعتذر مقدما..






الموسيقى تلعب دورا هاما في الشعر أكثر من غيره من صنوف وأجناس الأدب، بيد أن هذا لا يعني أن الشعر وحده ينعم بهذه الميزة دون غيره، لذلك طاب لي أن أختار عنونة موضوعي بـ "موسيقى النص" بينما أمثل عليها بالشعر لا بغيره، لأن الشعر – كما هو معلوم- جنس إبداعي سام، تتوافر فيه من البدائع مالا تتوافر في غيره..

والموسيقى بشكل خاص جليّة الوضوح بكل سماتها.. وقد لمحت بعض الظواهر الموسيقية طاب لشعراء المربد توشية قصائدهم بها.. ومنها:





من المعروف أن الموسيقى ترتيب نغم يعلو ويهبط...

و(يتكرر) هذا السلم علوا وهبوطا ليعطي طابع النغم العام.. وهذا يختلف عن اللحن بطبيعة الحال..

لأن اللحن (مصنوع) صناعة من النغم نفسه.. فإذا تكرر صف الأنغام وفق شكل معين سمي لحنا..

والشاعر عادة- بصفة عامة- يحب هذه الظاهرة الموسيقية جدا.. ويلجأ إليها لأغراض متعددة، وظاهرة التكرار تخدمه فعلا.. وتزين قصيدته أيما تزيين..

وهذه الظاهرة ليست بحديثة، بل هي موجودة في الشعر القديم كثيرا.. لكن جدتها تنبع من استخدام الشاعر لها وتوظيفها..

من ذلك مثلا تكرار الضمائر المنفصلة للتودد والحب، وهو تكرار شائع غير أنه جميل تستطيب الأذن سماعه.. كقول الشاعر (فارس الهيتي) :



بغداد أنتِ التي في القلبِ ساكنة

وأنتِ أنتِ التي في العسرِ تؤويني


فأنت هنا ضمير منفصل قصد منه فارس التودد إلى فتاته بغداد وكرر ضمير مخاطبتها بدافع الحنين والشوق.. تكراراً خدم الغرض منه تماما..




وقد يقصد الشاعر بالتكرار إلى جانب التودد والحنين هدفا رقيقا هو الرغبة في الاحتواء.. كما لو كرر فعل الأمر (الطلب) مثل: أحبيني.. احتويني ونحو ذلك.. ومنه قول الشاعر (يوسف أبي سالم) :


تعالي نعيد الحكاية..
..

تعاليْ أحبكِ

والضوء شاردْ
..

تعالي أحبك

نشعلُ نيراننا بالجنون ِ
..

تعالي

لأبني لك الآن عرشا


هنا كرر فعل الطلب (تعالي) ليؤكد معنى طلب الاحتواء بالإضافة إلى التودد.. بينما لو كرر أسلوب النداء لاختلف الغرض تماما.. فإذا كان تعبير فعل الطلب دلالة على الرغبة (التي هي منه) المنعكس أثرها على الشاعر.. فالنداء يعكس أثر (المحبوبة) على الشاعر نفسه.. كقول يوسف في نفس القصيدة:


يا أنثايَ العذبةُ إني

أعشق بوح تفاصيلكْ
..

يا أنثاي العذبة..إني صوتٌ

بعض قرارٍ يتغشاني
..

يا أنثاي العذبة يا سمرائي

ياآخر أحلام العمر ِ

ويا مد الصحراء


والطلب حين يخاطب به الشاعر حبيبته عادة يكون في تكراره الموسيقي معنى (الإلحاح) أو الاستجداء.. وهو من الرهافة والجمال ما يشد به أذن المتلقي ويستحوذ اهتمامه.. فنرى شاعرا كـ (علي صالح الجاسم) يلحّ في الطلب قائلا:


قلها : مللت الصمت في عينيك قلها

ساعتي يئست وطال الانتظارُ

قلها فما زالت هناك قصيدةٌ

هي أجمل النجمات فوق وسادتي

وعلى بريق عيونها طاب الحوارُ

قلها : أحبك مرَّةً في العمر

واتركني أموت معذَّباً


فإذا أنتهى المتلقي من القراءة وجد نفسه بلا شعور يردد مع الشاعر (قلها.. قلها) فهل أجمل من هذا الإلحاح؟




هكذا يستخدم الشاعر التكرار الموسيقى في (تكرار الضمائر) .. (الكلمات) .. (الأساليب التعبيرية) كالنداء الذي رأيناه عند (يوسف أبي سالم) وكذلك الاستفهام عند الشاعر (الناصري) حين يقول:


أيُّ شعرٍ في حياةٍ كلُّ ما فيها .....مقابرْ ... ؟

أيُّ شعرٍ في حياةٍ كلُّ ما فيها مظاهرْ .........؟

أيُّ شعرٍ في حياةٍ يقهرُ المُسْلِمَ كافِرْ..........!

أصبحَ الإنسانُ دُمية..... دمُهُ أصبحَ فاتِرْ ....


هذا الاستفهام المتكرر متحسر الدلالة باكي النبرة يحمل الاستهجان والاستنكار المرير.. فلا عجب أن يلجأ الشاعر إليه ليؤكد هذا المعنى الحزين..

وكما رأينا (فارس الهيتي) يستخدم الضمير المنفصل في التودد، فها نحن أولاء نجد الشاعر (ثروت سليم) يستخدمه ليعبر عن معنى جميل آخر في قوله:


هل أَنتِ أَنتِ أَم اَنَ حُلْماً زارني

وأنَا أنَا أَمْ أنَّ طَيْــفَاً أَقْـدَمَا ؟


كرر (أنا) و (أنت) للتعبير عن الدهشة التي تأخذ العقل، فيوازن بين المعقول الممكن وبين الواقع الجميل الذي ظنّه لا يتحقق.. فعبر بالتكرار الموسيقي هنا عن صورة تمثيلية هز الشاعر فيها رأسه غير مصدق.. أمعقول أنه في الحقيقة لا في الحلم؟!!.. وهو تعبير لطيف رقيق فيه جدة ورهافة..

وضمير الغائب ( هو وهي) .. يحظى من الشعراء بمنزلة أخرى تختلف قليلا عن ضمير المخاطب (انت) لأن ضمير الغائب يعبر عن الإعجاب الشديد والتوحد والتداخل الشعوري في ذات المحبوب وما ينعكس على الشاعر من جرائه، فحين يقول (ثروت سليم) مثلا:


هي الدَفءُ في لَيلِ الشتَاءِ وبَردُهَـا

هي العطرُ والأُنثَى هي المَاءُ والهوَا

هي الشِّعـرُ إلهـامٌ بهَـا وبُحـورُ

هي النَارُ أُزكيهَـا فيـزدادُ وَقْدُهَـا

هي العطرُ والأُنثَى هي المَاءُ والهوَا

هي الشِّعـرُ إلهـامٌ بهَـا وبُحـورُ

هي النَارُ أُزكيهَـا فيـزدادُ وَقْدُهَـا

هي الروحُ والأشواقُ والقَلبُ عِندَها

هي العُمرُ قبلَ العُمرِ وهي حبيبتي


حين يقول ذلك إنما يسقط على الحبيبة كل صفات الطبيعة المؤثرة بردا وحرا وثورة وجموحا وسلاما في نفسه.. تعبير رائق لتقلبات المحب وأعاصير الهوى التي تطوحه يمينا وشمالا..

والعجيب أن الشعراء يطيب لهم أحيانا أن يشفعوا التكرار الموسيقي بتداخل ضمني مع الموسيقى الظاهرة للنص والتي يحققها الوزن العروضي.. ولنأخذ على ذلك مثالا للشاعر (يوسف أبي سالم) حين يقول:


تمهّـلْ....تمهّـلْ

سنقرؤكَ الآنَ

سِفْـراً ...جديدا ..!

..

تمهّلْ

أرى الآن زيتونةً

تذرفُ الزيتَ

في حَضْرةِ الموتِ

أنقى


فتكرار كلمة تمهّل جاء ضمن التفعيلة (فعولن) وهذه التفعيلة تدخل في بحر الطويل التقليدي وبحر المتقارب الراقص.. نغمان مختلفان جدا ..

ولأنها طيّعة في هذا المجال التعبيري الفني فقد استحسن الشاعر هنا استخدامها للتعبير عن نبرة الاستبطاء ساعدها في ذلك الهاء المشددة وكأنها تشدّ أقدام المنادى ليبطئ من خطواته المتسارعة..

ولعل الشواعر من النساء يستخدمن التكرار الموسيقي المتمازج مع العروض استخداما أكثر شفافية وغنجاً.. ويتلاعبن بأنغامه الموسيقية كما لو كنّ يغنين.. فنجد شاعرة رهيفة كـ (هند باخشوين) تصنع للتكرار لحنا بديعا فتقول:


أدري ،، أدري

كم غنَّاه قصيدي

أدري أنِّي نبضُ الحب

حرفُ الحبْ

صوتُ الحبْ

لحــنُ الحبْ

حـــبُّ الحبْ


وتتكيء على كلمة الحب كل مرة وكأنها تهمس به وتغنيه.. والحق أن هذا المقطع لهند في غاية الشفافية..








نستمر في الحديث عن الظواهر الموسيقية الفنية في تنغيم النص والشعري خاصة، وأحب التنبيه أنني لست بصدد الحديث عن الموسيقى الشعرية الظاهرة (العروض)، فلا شك أن الوزن العروضي هو موسيقى في الحقيقة.. لكن الظواهر الجميلة التي لمستها عند شعراء المربد وأحسست أنهم استخدموها- في الغالب- بشكل جميل هي ظواهر قلّما يهتم بها الشعراء من حيث الشكل ويحرصون في العادة على نقاء الوزن وسلامته وعدم اللجوء- ما أمكن- إلى الزحاف والعلل التي قد تربك الموسيقى الظاهرة أحيانا..






الغنة نغم شجي جميل رنان.. يستحوذ جماله على الأذن ويصدر من الخيشوم.. وقد زخرت آيات كتاب الله تعالى بهذا النغم وجوّدته التلاوة وحرص علم التجويد على إخراجه من مخرجه صحيحا بدرجاته الصوتية الخمس..

ومن غير شك أن النغم الجميل يكون له من الشعراء خاصة جل الاهتمام.. لأن الشعر في الأصل كلام صيغ موسيقيا ومعنويا بشكل أرقى من الكلام العادي.. لذا فلا عجب أن شاعرا مثل جرير يستخدم الغنة ويترنم بنونها عوضا عن التنوين حين يقول:


أقلّي اللوم عاذل والعتابن

وقولي إن أصبت لقد أصابن



والغنة يستخدمها الشاعر غالبا لغرضين لا يكاد يخرج عنهما (الشجن و التطريب).. ولها مراتب خمس أعلاها النون والميم المشددتان..

وبهذه المرتبة الصوتية العليا من الغنة ترنّم الشاعر (ثروت سليم) قائلا:


تَمنَيْتُ إِبناً سَيحمِلُ هَمي

ويمَسحُ دَمعي

إذا ما بَكيْتْ

تَمنيــتُهُ أن يرافِـقَ قلـبي

بـِـكُلِ صلَاةٍ...

تَمنيتُ لَيْتَ التمني يُغَنِّي

ولَكِنْ مُحَالٌ..

وعينُ المُحالِ


فكلمة تمنّيت- تمنيته- التمني- يغني.. كلها تعتمد على النون المشددة في الترنم، استخدمها ثروت سليم هنا ليعبر عن معنى الشجن والأسى الذي لاءَم النص ووافق غرضه.. وهو حرص من الشاعر ملحوظ..

ولعل جمالية الأبيات السابقة هو ذلك التتابع البديع بين درجات الغنة (النون المشددة) ثم (النون الساكنة) التي هي أقل درجة من الأولى في تنوين (صلاة) ونون (أن يرافق) ونون (لكن)







بينما نرى توافقا آخر جميلا عن الشاعر (أحمد عبد الحميد ديب) في تركيزه على مرافقة حرفي النون والميم بدرجات مختلفة من الغنة..


ودَمْعي يَحِنُّ إلى وَجْنَتَيّا

نَفونِيَ عنِّي

وذَنْبيَ أنّي

خُلِقْتُ أَبِيّا


وها هنا رغم أن الشاعر أحمد عبد الحميد اختار الغنة في مقطع (الدمع) الشجي إلا أنه أضاف التطريب في اختيار الحروف ذات المخارج الصوتية المتباينة لتظهر الغنة واضحة بين حروف فخمة الصوت كالباء والقاف والجيم..



وهذه الطريقة ذاتها يستخدمها (يوسف أبو سالم) في موقف دامع كذلك لكنه يضيف نون التنوين إلى النون والميم ولا ينسى أن يطرب السامع بتباين الحروف حتى تظهر الغنة واضحة في قوله:


لقد كنتَ طفلا شقيا

ولكن كل الدموع

التي شيّعَتكَ

وكل الجموع التي حملتكَ

وكل نشيج المواويلِ

وهي تواريكَ

أشقى...!



بينما نجد شاعرة رقيقة كـ (هند باخشوين) تستخدم صوت النون الساكنة ونون التنوين لتضيف تماثلا صوتيا مكررا يتكئ على النون مطربا متفاعلا ليؤكد المعنى الذي أرادته موضوعا لقصيدتها (صدق) حين تقول:


لكن ـ صدِّقْ ـ

قسمًا صدِّقْ

أنِّي من قبلك

ما أحببتْ


هذا واضح في النغمين (لكن صدق) ثم بعد هنيهة صمت تقول (قسما صدق) لتعادل بصوت التنوين صوت النون الأولى.. وواضح أن هذا تغنّ قصدته الشاعرة .. وهو مقصد موفق..







وقد يفضل الشاعر أن يستخدم الغنة لغرض الحزن دون التطريب، وهذا ما فعله (ناجي حسين) حين قال:


أساطيرُ أَرضٍ تلُّفُ عباءَتَها‏

موكبٌ أبيضُ الأفَقْ مثل الكفَنْ.‏

لماذا نشُّدُ خيُولَ النشيد إلى‏

خرقةٍ من ثيابِ المَحنْ.‏

سألقنُ عُمريْ.. وكُل السنينَ‏

التي دفَنَتْ سرّهَا في‏

زوايا الشَجَنْ


فـ (الكفن) و (المحن) و (الشجن) ترتكز على النون الساكنة في اتكائية مريرة تعبر عن الأسى وكأنه أراد بتسكين النون انتهاء الحياة التي هي حياة بعد تلك النون كنقطة في آخر السطر الذي يستحق القراءة..



وهكذا نرى أن الغنة بدرجاتها الصوتية (عليا) هي المشددة وتليها (غنة الإدغام وغنة الإخفاء) وهما مشهورتان في تلاوة كتاب الله، ثم تليها (غنة النون والميم الساكنة) ، وهذه الأخيرة والأولى غنتان محببتان جدا للشعراء.. بقيت درجة هي أقل الدرجات من الغنة وهي النون والميم المتحركة بالفتحة.. وهذه النغمة إذا استخدمها الشاعر في القافية-خاصة- تضيف موسيقى رقيقة هادئة كما فعل الشاعر (يوسف أبو سالم) حين قال في ترويدته:


فافْرِدْ جناحَكَ ضُمَّنا

كي نكتسي ذَوْبَ السَّنا

فالكونُ والدُّنيا لنا



وقد أحسن الشاعر في اختيار هذه الدرجة ليناسب الصور البديعة التي رسمها في ثنايا هذه الأبيات الثلاثة..








إن الكلمة مكونة من حروف لكن الأصل في الحروف هو الصوت.. واللغة العربية لكل حرف فيها سمات تميز صوته.. وقد يطرأ على صوت الحرف تغيير بحسب ما قبله وما بعده.. وهذا في اللغة العربية أكثر وضوحا من غيرها من اللغات ..







اختار بعض شعراء المربد أن يزينوا كثيرا من المقاطع في قصائدهم بأصوات مميزة تتباين حينا وتتشابه أحيانا لتعبر عن الحالة الشعورية المطلوبة في القصيدة..

فنجد شاعرا كـ (فارس الهيتي) يستخدم حروفا مفخمة صفتها القلقة فيكررها دون أن يظهر في ذلك التكرار ثقل أو تردد في النغم.. بل العكس من ذلك.. نجد حرف (القاف) مثلا يتكرر- على فخامته- سلسا مستساغ الصوت كما في قوله:


رَميتُ قلبي فكـادَ الحـبّ يقتلنـي

بين القوافي فضاع القوس والرامي



وهي ظاهرة أحب (فارس) أن ينغمها على قوة الصوت وترداده، فيستغل قوة حرف (الجيم) ليؤكد معنى الاستنكار والحيرة حين يقول:


ماذا أَصابكِ هلْ جَفّت جداولكِ

وأنتِ شمس الضحى يا نفحةَ الطيبِ


فقوله: (هل جفت جداولك) تركيز على الجيم، حيث الحروف (ق ط ب ج د ) هي حروف قوية الترداد تضطرب إذا جهر بها..



في حين أن الشاعر (كريم محسن) له رأي يختلف قليلا.. فلا يعبر بقوة الحرف عن الحيرة، إنما هي الحسرة القابعة في الدال التي سبقها مد باكٍ:


لا تسألي عني . حدود ملامحـــي ـ

رملٌ و أخيلة الرحيل حـــــــــدود ُ

الحب ُّ يحتمل ُ الهزائمَ والشكـوك ـ

براعمٌ للعابرين وللعناق ِ بريــــد ُ

هذا غبارُ هزائمي , والملح ُ فـي

عيني . وظلي في الرمال ِ شريد ُ


فهنا نجد أنفسنا نتغنى بـ (حدودُ- بريدُ- شريدُ) مع كريم محسن.. الذي اختار تلك القافية ركيزة كررها في قصيدته (من بيت من) كأنما يترنّم بمقام اللامي الحزين.. مفضلا أن تكون الدال المضطربة نطقة استقرار ذلك المقام المتناوب..



وذاك كان شأن الحروف ذات الفخامة، بينما حرف (الحاء) الظاهر سمعا، والمنطوق في غير مشقة، يربطه الشاعر (يوسف أبو سالم) بمعنى العويل والبكاء عندما يكرره ساكنا في قوله:


فأنتَ الجموحُ

الذي اندلع اليومَ

حين تركتَ الحصان َ

وحيدا ..

وأنت الجروحُ

التي انفتقتْ

وهي تشخُبُ في ضفّتيها

ورودا ...!

وأنتَ الطموحُ

الذي ولدتكَ

طيورٌ من الرعْدِ

حتى تعودا ...!!؟؟


فما بين الطموح والجموح والجروح سكون ينوح يحاول تصوير مرارة الفقد.. صوت خدم الغرض من النص بأجمل شكل..



وبطريقة رائعة يعالج الشاعر (ثروت سليم) قصائده الرقاق ويخدم غرضه الغزلي اللطيف حين يستخدم حروف الليـن.. وحرفا اللين هما (و - ي) إذا سبقهما فتح.. فيقول:


أما آنَ بعدَ إنتظارٍ وشوقٍ

وقلبي على البابِ كم ينتظرْ

لقد ذابَ قلبي بغيمِ السماءِ

فهل تَسْمعينَ لصوتِ القمرْ؟

سَيلتَمِسُ الدِفءِ عندَ الشتاءِ

بواحاتِ عَينيكِ بعدَ السفرْ


تلك الرقة المتناهية تصدر من حسن اختيار الكلمات وأصواتها فلم يخلُ بين من اللين والرهافة: (شوق- غيم- صوت- عينيك).. وهو توافق جميل صاحب الايقاع واستمد منه رقته...






وقد يميل الشاعر إلى تجنيس فاء ولام الأفعال.. وهو ما يسمى بالتضعيف.. فيضيف إلى إيقاع الصوت الأصلي إيقاعه الصرفي.. كقول الشاعر (يوسف أبي سالم) :


إذا فَجَّ فيها رَنيمُ الصًّباحِ

وهَسهَسَ طيرُ المُنى الغَـرِدُ

يُدَغدِغُ هَمسُ الضُّحَى العَتَبَاتِ

ويُصغي لِوَقعِ النَهـــارِ الغَــدُ

وتَسْهَرُ فيها ليالي الشِّتـاءِ

فَيَهطُلُ مِن والِــدٍ وَلَـــدُ..!!

يُرَفرِفُ إن أزْهَرَ الأُقحُوانُ

كـــأَنَّ مَلاكـاً بِـهِ يَسجُــــدُ

يُهدهِدُ بالذكرياتِ الكُرومَ

فَيَقطُرُهُ صَمتُها السَّرمَــدُ


(هسهس) – (يدغدغ) كلمتان مختلفتا الصوت تماما، فالأولى صائتة لسينها صفير ولهائها خفة هامسة، بينما الثانية مضطربة قوية النغم... لكن الشاعر هنا أراد الاستفادة من النغم الصرفي لا النغم الصوتي لصفة الحرف، كي يعطي معنى التتالي لصوت تغريد الطائر وهمس الضحى بشكل متتابع مستمر وخاصة حين استخدم صيغ المضارعة في (يدغدغ- يرفرف- يهدهد)..



وعند شاعر مثل (أحمد عبد الحميد ديب) هل هو من قبيل الصدفة استخدام تلك الصافرة الهامسة وتكرارها في قوله:


فلا هَمَساتي

ولا بَسَماتي

ولا أُغْنِياتي...

ستنْظُمُ حَرْفاً

وتَنْسُجُ لغْزاً

وتُنْشِدُ لَحْنَ وَداعٍ شَجِيّا

ولا كَلِماتي..

ولا كَفْكَفاتي الدموعَ الغوالي

على وَجْنَتَيْكِ

تعودُ لِتَمْسَحَ دَمْعاً سَخِيّا

وأمَّا دموعي...

ونَوحُ ضلوعي...

سأحْبِسُها في سجونِ فؤادي



لاشك أنكم لمحتم هذا الهمس اللطيف في أذن سامعته.. هذا الهمس الذي تولد عن صوت السين هو استخدام خادم للنص على نحو من الحسن بديع..





الشعراء عادة يتغلغلون في أعماق نصوصهم.. ويعيشون معها حالات خاصة من التوحد والسكنى.. فإذا ما تراءى لهم كتابة بيت، استحضروا شعورهم فكان هو الذي يكتب لا الأقلام...

لهذا فليس من العجيب أن نشاهد لديهم هذا التوافق بين صفات الأصوات وحسن اختيارهم لها في التعبير عما يشعرون...

تقول شاعرتنا الرقيقة (هند باخشوين) :


و أصغِ مليًّــا لنبض الحنايــــــا

تجدْه يدندن عذب اللحــــــــــون

وطـالعْ بشـــوق جميع المرايـا

ستسأل حتمًـــا أهذي عيوني ؟


قولها : (الحنايا- المرايا) و (اللحونِ- عيوني) هي استطالة لصوتي الألف والواو، حيث تمد الشاعرة نَفَسها لتعبر عن امتداد الشعور الداخلي الذي ملك عليها حناياها أجمعها.. ومد وضوع الهوى والحب في عينيها أينما اتجهت وحيثما نظرت.. وحول الأفق يمينه وشاله إلى مرايا فاضحة..



وهذا المد يستحضر أيضا امتداد الصوت الذي يرتد صداه في المكان الخاوي الموحش عندي الشاعر (أحمد عبد الحميد ديب) حين يقول:


وصِرتُ بعيداً...

حُطامٌ...

رُكامٌ...

ظَلامٌ ثَقيلٌ...

ورُعْبٌ يُزَمْجِرُ في مَسْمَعَيّا



فإذا بنا حين نسمعه يطيل النفس بالكلمات (حطــام- ركــام- ظـــلام- ثقــيل) نصاب نحن أيضا برعب الوحشة.. ونحس بخواء المكان..







الإيقاع كما هو معلوم، مكون من صوت (أو حركة) وصمت (أو سكون) والإيقاع الذي يهمنا هنا ليس إيقاع الوزن العروضي، مع أنه إيقاع كذلك، لكن الشاعر الحقيقي من يضيف إلى إيقاع الوزن إيقاعا خاصا ينشأ من لفظه ومصاف حروفه وتنغيم مفرداته.. وهو أمر قد لا يتعمده الشاعر، وقد يفعل.. وأجمل الجمال ما جاء عفوا.. سهلا ممتنعا.. كقول الشاعرة الرقيقة (هند باخشوين) :


أجيبي ـ بربِّك ـ ماذا جرى لي؟

لقلبي؟ لعقلي؟ لكلِّ شـــؤوني؟



وقولها:


وعــــرَّضتُ ثلج دماك لوجدي

لشِعري ، لشوقي ، لوهج أتوني


ففي عجزي البيتين استخدمت هند تقسيما لطيفا لقلبي- لعقلي- لكل شؤوني- لشعري- لشوقي- لوهج أتوني.. وقد جاء عفوا كأن الشاعرة لم تقصدة- وإن قصدته- فقد نغمت مفرداتها لترقص مع الوزن الراقص في الأصل، لتزيد الخطوات رشاقة فريدة..




وشاعرة أخرى رائعة هي (أحلام الحميد) تقول:


خُذْ سُكُوني، خُذْ شُجُوني،مُهْجَتي

خُذْ لُحُوني، وتَرَانيمي صَـــدَى

خُذْ سَمَائِي،خُذْ طُيوري، فرحتي

فَأَنَا وحدي سَأَحْــــــيَا الكَمَــــدَا


الشاعرة أحلام لم تكتف بنتغيم صدور الأبيات بل ملأت أبياتها تماما بإيقاع متتالي تضيفه إلى إيقاع بحر الرمل الجميل.. وبحر الرمل متميز النغم يطغى على البيت ويظهر مهما خالفته المخارج والكلمات.. ولم يكن لأحلام حاجة إلى إضفاء إيقاع جديد.. لكنها فعلت ذلك لغرض شعري جلي، وهو الإلحاح في التنازل عن السكون والفرح والبهجة بل والشجن والترانيم كذلك.. إلحاح شعوري حزين مليء بالكبرياء.. مجسد لأنفة الأنثى وشموخها الراقي البديع.. وشاعرة مثل أحلام، لن يفوتها أن تلفت الأنظار إلى هذا المقطع الجمالي بالتركيز على الإيقاع الداخلي الفني..



ونجد هذا التقسيم الإيقاعي يأخذ شكل السجع غير التكلف، سجع جاء هادئا لطيفا عن (ثروت سليم) :


وأنتِ الظنونُ وأنتِ الجنونُ

وأنتِ الفُـنونُ وأنتِ الوَتَرْ

وأنتِ البلاَغَـةُ عندَ الكلامِ

وفي الصمتِ أقرأُ فيكِ الخَبرْ


أنت الظنون، أنت الجنون، أنت الفنون.. سجع يكرر فيه ضمير المخاطب (أنت) فلماذا؟ ولماذا النون هكذا ممتدة؟ ثم يسكن بشكل مفاجئ قائلا (وأنت الوترْ) .. هذا الإيقاع اللطيف هو تعبير عن جنون.. عن موج هادر من الدهشة.. دهشة حب يجتاح العقل.. حتى يثوب العقل إلى رشده فجأة- عن سكون راء الوتر- كناية عن انتهاء معزوفة صاخبة ثائرة.. ليأتي العقل والبيان وجمال الكلم عند قوله (وأنت البلاغة عند الكلام) ..


مستحيل ذلك التعبير.. لو أراد فنان صياغة صورة تعبيرية جميلة بهذا القدر من الكلمات البسيطة لما تأتى له عشر معشارها.. لكن ثروت سليم فعل ذلك..






ولعل إضفاء لمسة إيقاعية على الأبيات لا يتضح بتقسيم المفردات إلى كلمات منفصلة تتفق مع الوزن، بل إن إشباع الحركات هو إيقاع جميل وفريد قد يعمد إليه الشاعر، كما فعل (فارس الهيتي) في قوله:


خُذُوني إليهِ فَروحِي لَدِيهِ

أَخَافُ عَلَيهِ إِذا زَادَ عَطفِي !!


إليه- لديه- عليه.. هذه الكلمات جاءت مشبعة الكسر، حتى يضطر القارئ إلى الوقوف على هذه الحركة المشبعة وكأنما أراد الشاعر لفت الأنظار إلى منزلة الغائب في قلبه ومدى حنينه المستعر إليه..




بينما يلجأ (يوسف أبو سالم) إلى التلاعب بالإيقاع لأن شعر التفعيلة صعب في التركيز على الإيقاع، فالشعر العمودي دون شك ظاهر تساعده عمودية الشكل، بينما لا يحدث هذا في شعر التفعيلة، والشاعر المتمرس لن يجد صعوبة في تنغيم القصيدة فيضفي عليها إيقاعا خاصا من السكنات والمفردات والحركات والتشاكيل المتنافرة والمتناسقة أيضا.. كقول أبي سالم:


لمن أبقيتِ

حبّات الندى ...تسكرْ

لمن تُمْطِـرْ

لِمَنْ أبقيتِ....

ليلاتِ على شرفاتها....

تَسهرْ


فالإيقاع في هذا المقطع قفز جريئا جدا (الندى تسكر- لمن تمطر- لمن أبقيت- تسهر) تلاعب بديع يركز على الضرب على وتر السكون في الراء الساكنة، والسكون بشكل عام إيقاع فني طبيعي تندر فيه الصنعة، وكان أبو سالم موفقا في اختياره أيما توفيق..



والتجانس اللفظي وتكرار المفردات وإن كان واضح الصنعة إلا أنه يحقق نوعا من الإيقاع الكلاسيكي التقليدي الذي يذكرنا بأبيات ابن خفاجة الأندلسي وابن الرومي.. ومنه الجناس والتكرار اللطيف في قول (ثروت سليم) :


فأَغدو كعُصفُورٍ وتَغـدو يَمَامَـة ً

تَحِـنُّ إذا مَـا زَقْـزَقَ العُصفـورُ

أَرَتِّلُها شَوْقَـاً فَينسَـابُ هَمْسُهَـا

حريراً وفي هَمْسِ الحريـرِ عَبيـرُ

سُرورٌ بأحلامي وسَرْوَى بيَقْظَتـي

كأنـي بِهَـا مُتَـمَـرِّدٌ مَـغـرورُ


ها هنا (كعصفور- العصفور) و (همسها- همس) و (حريرا- حرير) و (سرور – سروى) ورغم التكرار الكثير لم يطرأ على الأبيات ثقل ولم تتلكأ في الانسياب عجيبة لطيفة كأنما سينها وصادها زقزقة عصفور بالفعل.







شعراء المربد.. كلما قرأت لأمثال هذه التقاسيم

فهممت بالكتابة حول الموسيقى يندهش خاطري وأظل مترقبة دوما

لنص شجي جديد جميل أمتع به صفحتي

حتى طاب لي هذه المرة أن أقاسمكم النغم

وأتحرى إمكان الإصابة فيما كتبت وذهبت إليه من تفسير أو تسليط ضوء



يقول الشاعر المتألق ثروت سليم



أرَتِّلُها شَوْقَـاً فَينسَـابُ هَمْسُهَـا

حريراً وفي هَمْسِ الحريـرِ عَبيـرُ

سُرورٌ بأحلامي وسَرْوَى بيَقْظَتـي

كأنـي بِهَـا مُتَـمَـرِّدٌ مَـغـرورُ


لماذا اختار ثروت سليم تشكيلة الحروف والأصوات

(السين- الصاد) ذات الصفير ولماذا تتبع الراء ذات الرنين

في قوله (متمرد- مغرور)

هل تعمّد سليم أن يصور لنا صوت التغريد؟ وهل جعل التمرد والغرور

دلالة معنوية لحرية التغريد؟ فلماذا؟

وفي قوله:


وأنتِ الظنونُ وأنتِ الجنونُ

وأنتِ الفُـنونُ وأنتِ الوَتَرْ

وأنتِ البلاَغَـةُ عندَ الكلامِ

وفي الصمتِ أقرأُ فيكِ الخَبرْ


هنا في هذه المقطوعة بالذات يخطر ببالي سؤال:

هل يقوم ثروت سليم بالغناء بينه وبين نفسه مدندنا بالقصيدة قبل كتابتها؟

فكما لا يخفى أن إيقاع المقطع هاهنا ظاهر لطيف كأنما صيغ لحنا قبل أن يصاغ لفظا






يقول الفنان الشاعر يوسف أبو سالم:


حروفي ..من سلاف النار والسكر

وقافيتي وقد فجرتها ...تهدر

وأنمو ...فيكِ

أنمو في خلاس الشعرْ

وأسقى من خوابٍ بِكْرْ

رحيق الثغرْ


وهذه ملحوظة وجدتها عند أبي سالم كثيرا

وهو تركيزه على قافية الساكنين

وخصوصا الراء الساكنة وقبلها ساكن

شعْر- بكْر- ثغْر

فما هو السبب يا ترى؟

كما ان هذا المقطع بالذات في تلاعب نغمي إيقاعي مطرب

فالراء الأولى ساكنة كذلك لكن قبلها متحرك

سكر - تهدر

فهل أراد يوسف أبو سالم أن يجعلها أشبه بلحن طربي ينتقل فيه

من قرار إلى جواب ومن مقام لآخر ليعبر عن فنية لفظية دلالية؟

هذه تساؤلات أحببت أن أجد عليها إجابات من الشعراء أنفسهم
|
This entry was posted on 5:26 ص and is filed under . You can follow any responses to this entry through the RSS 2.0 feed. You can leave a response, or trackback from your own site.

0 التعليقات: